حددنا في التقرير السابق الإطار العام لأهداف و دوافع الإمبريالية الأميركية من وراء التهديد والتحضير المتواصل لضرب العراق ، و يأتي على رأس هذه الأهداف السيطرة على مصادر النفط الذي يشكل العصب الأساس للاقتصاد العالمي ، خاصة أن الاحتياط الأكبر منه يقع في منطقة الخليج إضافة الى الموقع الاستراتيجي للمنطقة ومحاولات الإمبريالية الأميركية الاستئثار بهذه المنطقة وثرواتها الضخمة لدعم اقتصادها الذي يشهد مظاهر تراجع وركود ، كذلك للمحافظة على موقعها السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم لتفرض نفسها على حلفائها من الموقع القوي قائدة وحيدة للعالم والمسؤولة عن أمنه واستقراره بما يتلاءم مع برنامجها ومصالحها ، ولابقاء إمكانية تدخلها في كافة شؤون الدول وفي الأمم المتحدة . كما تسعى لمنع الدول حتى الرأسمالية الحليفة من الحصول على حصص نفطية كبيرة أو على مجالات اقتصادية حيوية في هذه المنطقة المهمة من العالم ، وبالتالي إبقاء اقتصاديات هذه الدول واحتياجاتها النفطية والخامية ورقة ضغط وابتزاز دائم .
وكما أكدنا في التقرير السابق فأن تأجيل الضربة العسكرية ضد العراق لا يعني أن الإمبريالية الأميركية قد تخلت عن سياسة العدوان واستعمال القوة ، ويتبين ذلك من تصريحات المسؤولين الأميركيين بأن أميركا لن تخفض قواتها في الخليج بل أنها تعزز هذا الوجود ، وهذا يعني انه في الوقت الذي استجابت فيه للحل السياسي الذي وقع بين العراق والأمين العام للأمم المتحدة فأنها تبقي على استعداداتها العسكرية لاقتناص أية فرصة سانحة لتنفيذ عدوانها .
مع العلم أن الاتفاق السياسي بين العراق وأنان جاء بناء على سقف محدد للتنازلات الأميركية بحيث لا يخرج عن الإطار العام لسياستها الإمبريالية ، وان كانت تسعى للعمل العسكري إلا أن ضغوطا دولية وخاصة من جانب روسيا وفرنسا والصين إضافة إلى الموقف العربي الرسمي والشعبي الرافض للعدوان ضد العراق ومطالبتهم جميعا بإعطاء الفرصة للحل الدبلوماسي ، هذا المناخ العام العربي والدولي أجبر الولايات المتحدة على الموافقة على هذا الحل ضمن السقف المحدد . إلا انه يبدو من خلال تصريحات المسؤولين الأميركيين أن الإمبريالية تراقب بدقة مدى التزام العراق بالاتفاق للتذرع بأية عرقلة أو خرق له لتنفيذ عدوانها، وما يدل على هذا التوجه تصميم أميركي على استمرار تواجد القوة العسكرية الأميركية وتعزيزها في المنطقة ، والدور القوي الذي يتمتع به رئيس لجنة التفتيش الدولية في العراق ” باتلر ” والمعروف عنه ارتباطه بالمخابرات المركزية الأميركية ، مما يسمح له بتقييم عمل فرق التفتيش وتحديد مدى التزام العراق أو عرقلته لعمل هذه الفرق حسب مشيئة الإمبريالية وأهدافها .
إن حالة عدم الاستقرار التي ما زالت تعيشها منطقة الخليج يعزز احتمال قيام أميركا بعدوانها العسكري فيما بعد ، من جهة لتنفيذ مخططها الهادف إلى السيطرة على النفط ، ومن جهة ثانية لمحاولة تفتيت العراق وتقسيمه وإسقاط نظام الحكم فيه وتنصيب قوى حليفة لها على رأس السلطة هناك للسيطرة على نفط العراق واحتياطه ، وللضغط على إيران وتطويقها والسيطرة على نفطها أيضا . ويكفي بقاء التواجد العسكري الأميركي في المنطقة ليشكل عامل توتر وعدم استقرار وتهديد دائم لأمن الدول العربية واستقرارها .
قد تستمر عمليات التفتيش على الأسلحة في العراق سنة أو أكثر كما صرح “باتلر ” مما يعني بقاء الخليج وكل المنطقة في حالة توتر رغم الحل الدبلوماسي ، إذ لا يمكن الاطمئنان لنتائجه مع بقاء التوجه الإمبريالي العدواني قائما . لذلك ستبقى هذه المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات .
ورغم أن المصالح الاستراتيجية للإمبريالية تأتي في أولويات سياستها وأهدافها إلا أن ما يجري له علاقة بدور إسرائيل في المنطقة ، إذ لا يمكن أن يتطور هذا الدور في ظل الموازين الراهنة بدون تواجد عسكري أميركي مباشر أو عملية عسكرية أميركية كبيرة خاصة بعد المتغيرات التي حصلت في المنطقة ، وعلى سبيل المثال فشل مؤتمر الدوحة الاقتصادي والتي سعت أميركا جهدها بالتعاون مع إسرائيل لإنجاحه والذي شكل نكسة للسياسة الأميركية ونموذجا للمناخ السياسي في المنطقة بعلاقته مع الولايات المتحدة ، إضافة إلى ذلك نجاح المؤتمر الإسلامي في طهران بحضور كافة الدول العربية والإسلامية ، وقراراته التي أكدت على حجم النقمة الشعبية والرسمية ضد السياسة الأميركية والتي تعود في جانب منها إلى حجم الضغط الشعبي على الأنظمة العربية لاتخاذ مواقف متعارضة مع سياسات الإمبريالية من جهة، ومن جهة ثانية بسبب الضغط الأميركي المتزايد على الدول العربية لإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات لصالح العدو الصهيوني ، والاستنزاف الاقتصادي الذي تمارسه بحقها .
مجمل هذه التطورات أزعجت الإمبريالية ودفعتها إلى السعي لتحقيق قفزة نوعية في وضعها العربي والدولي لتثبيت سطوتها عالميا وتلميع سياستها في المنطقة . في هذا السياق تجري محاولات تضليل للرأي العام العربي بتصوير خلافات مزعومة بين الإمبريالية الأميركية وبين إسرائيل تتعلق بتنفيذ اتفاقات أوسلو ، وفي هذا المجال تأتي زيارة وزير خارجية بريطانيا روبن كوك إلى الأراضي المحتلة وافتعاله مشكلة وهمية مع الحكومة الإسرائيلية حول زيارته مستعمرة جبل أبو غنيم ، في الوقت الذي لم نسمعه يعارض سياسة الاستيطان أو يندد بالقمع الوحشي للشعب الفلسطيني أو بمصادرة الأراضي العربية ، بل انه سجل اعتراضه فقط على توسيع مستوطنة أبو غنيم .
إن محاولات الإمبريالية الأميركية و حلفائها تضليل جماهير الشعب العربي لتسويق سياستها
ومشاريعها لن تجد صدى إيجابي عند هذه الجماهير لأنها اختبرت السياسة العدوانية والتوسعية الأميركية و الدعم اللامحدود للعدو الصهيوني لفرض تفوقه و هيمنته على مجمل المنطقة العربية ، و لان شعبنا العربي وقواه الثورية و التقدمية و الديمقراطية تعي جيدا خطر الدور الأحادي للإمبريالية الأميركية المسيطرة على الهيئات الدولية و المتحكمة بقراراتها، وخطر التسابق المحموم على السيطرة الاقتصادية و مواقع النفوذ من قبل الدول الرأسمالية العالمية، مما يزعزع الاستقرار الدولي و خاصة في منطقة الشرق الأوسط .
إن احتدام الصراع بين الدول الرأسمالية على السيطرة و التحكم و احتلال مواقع جديدة ، سياسة إمبريالية عدوانية تدفع ثمنها الشعوب المقهورة من حياتها و ثرواتها. و ما يجري في يوغوسلافيا السابقة من صراع دموي يأخذ طابع الصراع الديني حينا و القومي أحيانا ، إلا تعبيرا عن الصراع الإمبريالي العالمي. و كنا قد حددنا غداة توقيع اتفاقية دايتون بين الأطراف المتصارعة أن أية تسوية ترعاها الإمبريالية تبقي فيها على الغام موقوتة تتحكم بتفجيرها تبعا لمصالحها ، و هذا ما حصل هناك . إذ جاء التفجير الجديد بين الصرب و الالبان بمثابة ردا أميركيا مباشرا على الدور الذي لعبته فرنسا و روسيا في فرض الحل الدبلوماسي في العراق و تعطيل القرار الأميركي بالعدوان العسكري ولو مرحليا . كما أن الصراع الجديد يهدد بإشعال حرب إقليمية في منطقة البلقان ، و هي منطقة حبلى أصلا بالتوترات و الصراعات الدينية و القومية و العرقية .
في الوضع الفلسطيني
تشهد الأرض المحتلة تصعيدا جديدا للانتفاضة الشعبية ردا على سياسة التعنت الإسرائيلية
وإنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني و التراجع عن تطبيق اتفاقات أوسلو ، رغم أنها لا تؤمن طموح الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية مستقلة . و يحاول الأعلام العربي والغربي أن ينسب التصلب و التشدد إلى نتنياهو ، إلا أن هذه السياسة هي سياسة إسرائيلية يعبر عنها و يمارسها كلا من حزب العمل و الليكود، و قد شهدنا شراسة العدو و جرائمه في عهود رابين و بيريز و نتنياهو ، وان كان الأخير يعتمد في تحالفاته اكثر على قوى اليمين والمتشددين الدينيين ، إلا أن سياسة العدوان و التوسع و الاستيطان و رفض الاعتراف بحقوق الفلسطينيين و حق العودة و الدولة الفلسطينية و عاصمتها القدس ، سياسة إسرائيلية ثابتة بغض النظر عن الحزب الحاكم . و يدعم هذا التصلب سياسة إمبريالية – صهيونية عالمية لا يمكن مواجهتها إلا بتصعيد الكفاح المسلح و النضال الشعبي لخلق ظروف صعبة أمامها ، و لتكوين موازين قوى جديدة على الأرض تفرض على هذه السياسة التراجع و الرضوخ .
لذلك نشهد بين فترة و أخرى هدؤا نسبيا في حركة الانتفاضة لتعود و تنفجر من جديد تبعا لتطورات عملية التسوية و لمستوى الضغط الإمبريالي – الصهيوني الذي يعاني منه الفلسطينيون ،ولقناعتهم الراسخة أن الانتفاضة هي الطريق الوحيد لتحقيق انتصارات في نضالهم التحرري . و قد أدت موجة الاستيطان الجديدة و العدوان الصهيوني المتمادي والمتمثل باختراق المستوطنين مناطق الحكم الذاتي و الاعتداء على المواطنين إلى إشعال الانتفاضة من جديد ، كون هذا يشكل مقدمات لسيطرة إسرائيلية على كافة الأراضي الفلسطينية مما يلغي مبدأ الأمن الوطني و الاستقلالية النسبية للحكم الذاتي ، والذي تحول بدوره إلى مجرد سلطة شكلية بادارة اقل من ذاتية . أن مناورة الإمبريالية الأميركية حول الخلافات مع إسرائيل ، و زيارة “كوك” تستهدف جر السلطة الفلسطينية لتقديم تنازلات جديدة بذريعة دعم الموقف الاميركي الضاغط على السياسة الإسرائيلية .
في الوضع اللبناني
يتأثر الوضع اللبناني بالتطورات الحاصلة في المنطقة و العالم ، و عندما توجه الأنظار أميركيا و أوروبيا و إسرائيليا اليوم نحو لبنان تحت شعار تطبيق القرار 425 فذلك لارتباط الوضع الداخلي بالوضع الإقليمي و الشرق أوسطي و الدولي. و نحن على قناعة أن طرح موضوع هذا القرار الآن إنما تم بفضل صمود شعبنا والمقاومة في الجنوب و البقاع الغربي ودورها البطولي في استنزاف القوات الصهيونية يوميا ، لان هذا الطرح يأتي في إطار البحث عن مخرج لقوات الاحتلال . و في الوقت نفسه يتيح لإسرائيل الفرصة لفرض ترتيبات أمنية تضمن أمنها و مصالحها ، و السعي الأميركي – الإسرائيلي لهذا المخرج يستهدف إنقاذ الدور الإسرائيلي السياسي و العسكري و بالتالي الدور الأميركي في المنطقة ،كون الجيش الإسرائيلي أداة للإمبريالية الأميركية التي تعلن كل لحظة دعمها للكيان الصهيوني و تتعهد بالحفاظ على تفوقه العسكري على كل المنطقة العربية .
و نحن نعتقد أن إسرائيل لن تستطيع تحمل حالة الاستنزاف العسكري و البشري الى ما لا نهاية وبالتالي فهي محكومة بالوصول إلى خيار الانسحاب من لبنان دون قيد أو شرط .إلا أن المحاولات الأميركية والأوروبية تهدف إلى إنقاذ إسرائيل قبل الوصول إلى هذه المرحلة ،
ويتم إنقاذها عبر اتفاق مع الحكومة اللبنانية لتطبيق القرار 425 تنسحب بموجبه إسرائيل مقابل حصولها على ضمانات أمنية.
و يصرح لبنان رسميا رفضه منح أية ضمانات ويصر على ضرورة تنفيذ إسرائيل للقرار دون شروط . إلا أن ما يجري في أروقة المفاوضات السرية عبر الأمين العام للأمم المتحدة
والدور الفرنسي و الأميركي يشير إلى إصرار العدو على انتزاع اتفاقات أمنية شبيهة باتفاق 17 أيار و قد تكون أسوأ منه ، و من جهة ثانية ،العمل على خلق ظروف داخلية في لبنان تمهد لفتن و توترات تضعف الوضع اللبناني و تربكه وتعيق عملية المواجهة ضد العدو مما يسمح بفرض الشروط السياسية و الأمنية على لبنان ، و بالتالي على سوريا فيما بعد .
نحن مع تنفيذ القرار 425 و انسحاب إسرائيل دون قيد أو شرط و نرفض دخول السلطة في مفاوضات حول هذا القرار مع إسرائيل مباشرة أو عبر دولة أخرى مما يعني وقوع لبنان في الفخ الإسرائيلي وبالتالي يصبح أسير السياسات الإسرائيلية لذلك نشدد في هذا المجال على أهمية دور المقاومة وتصعيدها وحمايتها ودعمها ، وكما نشدد على صمود شعبنا في الجنوب والبقاع الغربي وفي كل لبنان ، والعمل الدائم على تحصين وحدة الشعب الداخلية لاعطائه مناعة تجنبه الوقوع في الفتن الداخلية .
وقد أتت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان إلى لبنان في سياق تسويق التوجهات الأميركية والإسرائيلية المتعلقة بتنفيذ القرار 425 ، ورغم نفي أنان بأنه يحمل مقترحات محددة لطرحها على الحكومة اللبنانية إلا انه لا يعقل أن يأتي إلى المنطقة في جولة واسعة دون مقترحات محددة ، خاصة أننا نعرف مدى هيمنة الولايات المتحدة على الأمم المتحدة وقراراتها ودورها وعلى الأمين العام تحديدا ، لما رافق انتخابه في هذا الموقع من ضغط وابتزاز إمبريالي لفرضه على رأس المنظمة الدولية .
وفي ظل التعنت الإسرائيلي بموضوع الانسحاب المشروط من لبنان فأننا لا نتوقع أن يحقق انان نتائج إيجابية في مهمته ، إلا أنه سيحاول تسجيل خرق معين في موقف السلطة ، أو انتزاع مواقف مؤيدة للشروط الإسرائيلية من بعض القوى والفعاليات السياسية اللبنانية لإظهار موقف متعارض للموقف اللبناني المتحالف مع سوريا ، مع العلم أن الموقف الشعبي اللبناني رافض كليا لأية شروط إسرائيلية وداعم بقوة للمقاومة، بينما الموقف الرسمي قابل للتجاوب مع الطرح الأميركي – الإسرائيلي لولا الموقف السوري المتمسك بشروط محددة للموافقة على استئناف المفاوضات مع إسرائيل ، خاصة أن الإمبريالية تسعى لإظهار تباين وتعارض في الموقف بين سوريا ولبنان والإدعاء أن الضغط السوري هو الذي يمنع السلطة من الموافقة على انسحاب إسرائيل بشروطها الأمنية .
من هنا نرى أن الزيارة لن تؤدي إلى حل موضوع الانسحاب الإسرائيلي ، لكنها قد تسفر عن انعكاسات سلبية على الصعيد الداخلي وعلى مستوى العلاقات اللبنانية – السورية ، وعلى صعيد العدوان العسكري الإسرائيلي بحجة رفض لبنان وساطة الأمم المتحدة مما قد يؤدي إلى عمل عسكري بوتيرة أعلى من التصعيد الحالي . مع التأكيد أن احتمال عدوان إسرائيلي واسع المدى أو اجتياح عسكري مستبعد حاليا ، لأن إسرائيل لا تنوي التورط مجددا بإرسال جيشها إلى لبنان في الوقت الذي تسعى إلى الخروج من مأزقها الراهن إلا أن احتمالات تصعيد الاعتداءات ضد الأراضي اللبنانية وتوسيعها لتطال مواقع اقتصادية حساسة في لبنان أمر وارد .
وفي ظل هذا الواقع ما زالت السلطة مصرة على الاستمرار في نهجها الاقتصادي والسياسي رغم المعارضة الشعبية وتؤكد الحكومة دوما على إصرارها بالاستمرار في هذا النهج ويدل على ذلك سياسة فرض الضرائب والرسوم وزيادة الدين العام الداخلي والخارجي ، وكلما ارتفع صوت المعارضة منتقدا ، يلجأ الحريري لوضعها أمام خيارين : إما الاستدانة من الخارج أو زيادة الضرائب واستحداث رسوم جديدة بحجة تمويل المشاريع ، لكننا نرى أن الحكومة ستلجأ للخيارين معا ، لأن أية استدانة خارجية تفرض توفير أموال لتغطية فوائد الديون وذلك يتطلب موارد جديدة لا تتأتى إلا من ضرائب تفرض على الفئات الشعبية وذوي الدخل المحدود وفي هذا المجال لا يسجل أي خلاف بين أركان السلطة على مبدأ الضرائب وان كان يلاحظ تباين في بعض الأحيان حول حجم الضريبة وأية سلعة ستطال إلا أن التوافق حول المبدأ قائم . كل هذا ولم يتطرق البحث داخل السلطة إلى موضوع الهدر وكيفية وقفه أو الحد منه .
إذا ، سيستمر مشروع الأعمار وستكون نتائجه أصعب وأقسى لأنه وعلى قاعدة الأزمة الخانقة ستزداد الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وفي الوقت نفسه لن نرى إنجاز كامل لأعمال البنية التحتية بينما ستزيد الديون بحجة هذه البنية ، وكنا ومنذ بداية طرح مشروع الحريري للأعمار قلنا أن حجم كلفة البنية التحتية ستزيد عن 30 مليار دولار إذا استمر التنفيذ على الوتيرة نفسها من الهدر والنهب والتلزيم بالتراضي للأزلام والمحسوبين ، وها نحن اليوم نؤكد أن حجم الأعمال المنجزة من البنية التحتية لا يتجاوز 30% بديون تبلغ 17 مليار دولار مما يعني صحة تشخيصنا للواقع الاقتصادي والمالي . إضافة لذلك أنتجت هذه السياسة حالة من الفقر والحرمان ، وتدل الدراسات العلمية والإحصائية إلى أن نسبة 27 % من الشعب اللبناني تعيش دون خط الفقر ونسبة 30 % تعيش على حافة الفقر.
وتحاول الحكومة الترويج لنظرية تقول أن الدين الداخلي أقل وطأة على الدولة من الديون الخارجية وبأنه في حال حصول أي تضخم وانخفاض في سعر صرف الليرة تعفى الدولة تلقائيا من قسم كبير من حجم الديون الداخلية ، وهذه حجة البعض في الدفاع عن الحريري وإشاعة أن تركه السلطة سيؤدي إلى الكارثة متناسين أن الكارثة الحقيقية هي من نتاج برنامجه ، واستمراره في الحكم هو استمرار لإنتاج هذه الكارثة . وسنشهد تدني كبير في المداخيل وتفاقم الوضع المعيشي وتزول بشكل شبه كامل الطبقة الوسطى وتتدهور أوضاع الطبقة العاملة والكادحين والفئات الشعبية وتزداد فقرا ومعاناة ، ويزداد بالمقابل تمركز رأس المال الاحتكاري وسيطرة الطبقة الرأسمالية والتي بدأت تلوح في الوضع اللبناني ، من خلال تمركز رأس المال المالي في القطاع المصرفي بحيث لم يعد للمصارف الصغيرة مكان في هذا القطاع لحساب المصارف الكبرى وغالبيتها برأسمال أجنبي أو مختلط مما يضطر المصارف الصغرى إلى البيع أو الدمج ، وهذه العملية ليست رغبة ذاتية عند هذه المصارف ، بل تعبيرا عن عجزها عن منافسة الاحتكارات الكبرى وتنفيذا لشروط ومواصفات المصرف المركزي والذي نعرف جيدا من يقف وراء سياسته المالية ، وهذا الأمر طبيعي في نظام رأسمالي احتكاري ، وكذلك عملية المركز في قطاعات الخدمات والفنادق والمطاعم والأسواق التجارية .
هذا النهج الاحتكاري وحالة الفقر والمعاناة أدت وتؤدي إلى تزايد عمليات الهجرة إلى الخارج في الوقت الذي بشرت فيه الحكومة بأن سياستها ستعيد المهاجرين والمغتربين من الخارج إلى الوطن . وهذا الواقع سيؤدي إلى انفجار شعبي حقيقي إلا أن ما يخيف في هذا الوضع هو تأجيج الحالة الطائفية والمذهبية وتغذيتها وضرب المؤسسات الديمقراطية والنقابية والشعبية والسيطرة عليها أو شرائها والهيمنة عليها ، أو تطييفها ومذهبتها ، حتى يفقد الشعب اللبناني وجود قيادة وطنية ديمقراطية في النقابات والمؤسسات والأحزاب . هناك برمجة مدروسة لضرب هذه الأطر والمؤسسات وتهميش دورها . وقد سارت السلطة بهذا التوجه حتى توصل الحالة الشعبية في حال تفجر نقمتها ، إلى افتقاد القيادة الحقيقية القادرة على النهوض بالمهام الوطنية وفرض التغيير على النظام ،وإيصالها إلى مرحلة العجز ومنهكة بأوضاعها المعيشية وصراعاتها الداخلية ، وبذلك تبقى السلطة بمنأى عن الضغط كما هو حاصل اليوم تحمي نفسها بالطائفية والمذهبية وبتغييب المؤسسات الديمقراطية والنقابية الموحدة
فعندما يصبح الاتحاد العمالي العام بقيادة الزغبي تابعا للسلطة وملحقا بها ، ويتحول الاتحاد الشرعي بقيادة الياس أبو رزق إلى اتحاد ملاحق قانونيا وقضائيا نتأكد من نهج السلطة الهادف إلى ضرب دور الاتحاد . لأن ما جرى بحق الاتحاد يجري بحق كل الهيئات والمؤسسات الأخرى وان بأشكال وأساليب مختلفة ولكن بالنتيجة نفسها ، تطييف الحركة الرياضية وخلق عوامل الانقسام في صفوفها على أساس مذهبي وبدعم من أطراف السلطة ، وحركة ثقافية واجتماعية ممسوكة من خلال سيطرة رأس المال عليها وتحولها إلى أبواق موالية للسلطة ، وقوى سياسية مأجورة بسبب التحاق قياداتها بالنظام لامتيازات شخصية . وكل هذا يدل على وجود وضع مأساوي في لبنان ، إن على المستوى الاقتصادي أو على مستوى العمل السياسي والديمقراطي والحريات العامة .
ونشهد حاليا فصلا جديدا من فصول ضرب الوحدة الوطنية والشعبية ، من خلال التسعير الطائفي والمذهبي بحجة رفض مشروع الزواج المدني الاختياري . ونحن على يقين أن أصحاب المشروع والمدافعين عنه من بعض أركان السلطة لا يهدفون حقيقة إلى تحقيق هذا المشروع أو إكماله وصولا لإلغاء الطائفية السياسة ، كما أن الرافضين للمشروع من أهل النظام لا يرفضونه من منطلق ديني أو مبدئي إذ أن الهدف من إثارته في هذه المرحلة هو ضرب عملية التوحد الشعبي التي بدأت بالتبلور على قاعدة الأزمة المعيشية الخانقة والتي تؤدي تلقائيا إلى توحد الطبقات الشعبية الفقيرة للبحث عن مخرج من أزمتها، ويترافق ذلك مع تأزم مشروع السلطة ووصول برنامجها الاقتصادي إلى مرحلة لم تعد قادرة فيه على إقناع الناس بصحة خياراتها وجاءت ردود فعل رجال الدين والقوى الدينية بالشكل الذي نشهده ، وبدعم وإيحاء مباشر من أطراف في السلطة ، لينقل هذه الأجواء المشحونة إلى الشارع مما يهدد أمن البلد واستقراره ويخلق أجواء قد تعيدنا إلى مرحلة الحرب المدمرة . كما أن السلطة تستهدف من هذه الإثارة المحمومة للعصبيات تمرير بعض المشاريع المرفوضة شعبيا والى تنفيذ توجهها بزيادة الضرائب والرسوم في ظل غياب مواجهة فعلية لها بسبب الأجواء السائدة في البلد والناتجة عن طرح مشروع الزواج المدني في هذا الوقت ، مما يهدد إنجازات الحركة الشعبية والديمقراطية والنقابية والتي راكمتها عبر نضال مرير على مدى الأعوام الماضية وحققت خلالها حد أدنى من الوحدة الشعبية ورفعت مستوى الوعي الوطني وكرست شرعية الدفاع عن مطالب الشعب وعن الحريات العامة والديمقراطية .
إننا نرى أن مشروع الزواج المدني الاختياري خطوة إيجابية لكنها غير كافية ، إذ أن الأساس هو الشروع في عملية إلغاء الطائفية السياسية والدخول في العلمنة الشاملة وصولا إلى تحقيق فصل الدين عن الدولة . وذلك عبر برنامج محدد ومن خلال نضالات شعبية ديمقراطية ، وبتغيير جذري في القوانين والتشريعات المكرسة للطائفية وفي الأساس منها قانون الأحوال الشخصية والقوانين والتشريعات المتعلقة بحقوق المرأة ، وإلغاء طائفية الوظائف والنواب والرؤساء . إن مشروع يحقق هذه الأهداف هو مشروع تقدمي ديمقراطي يؤدي إلى بناء دولة عصرية مدنية تقوم على أساس القانون والمؤسسات الدستورية وينتمي ابناؤها للوطن لا للطوائف .
إن لجوء الحريري إلى الاستشارات اليوم ناتجة عن الضغط والنقمة الشعبية وعن تعثر مشروعه الاعماري ، لذلك عمد إلى البحث عن منحى إنقاذي لوضعه الذاتي ولبرنامجه . هذه الاستشارات تشمل أحزاب وقوى وفعاليات لم يكن لها أي دور في برنامجه كما لا دور لها في وصول البلد إلى الكارثة ، إلا انه يقصد من ورائها إلى رمي المسؤولية على غيره تحت شعار العمل على الإنقاذ بدل المعارضة والانتقاد، وهو يريد من ذلك إكمال مشاريعه الإنشائية غير المنتجة ، وكلما تأزمت الأمور لاحقا يتذرع بأنه أستشار جميع الأطراف ولم يعترض أحد على سياسته ، لانه بمجرد الموافقة على المشاركة في هذه الاستشارات يعني تغطية الحريري للاستمرار في هذا النهج .
ولو كان الحريري جادا في هذا الموضوع ، كان انتقد نفسه ومشروعه وقدم استقالته واعترف بارتكاب الأخطاء وبمسؤوليته عن إيصال الناس والبلد إلى الأزمة الحالية . إما أن يستمر بمشروعه وتحميل الآخرين المسؤولية دون التراجع واعادة تقييم البرنامج ووضع أولويات جديدة والالتفات لمطالب الحركة الشعبية ، فهذا يؤدي إلى استمراره في السلطة لفترة جديدة .
وأكملت بدعة الترويكا انتهاك المؤسسات الدستورية والرقابية والتمثيلية ودمرتها ، وفقد مجلس النواب دوره ، وهو عاجز عن إسقاط الحكومة أو مراقبتها ، أو إصدار قوانين وتشريعات تتعلق بحقوق الشعب ومصالحه . ويستشري الفساد في الإدارة والتوظيفات الموزعة طائفيا ومذهبيا بعد الاجهاز على المؤسسات التي قامت في مرحلة معينة من تاريخ لبنان والتي شكلت حينها خطوة اولى على طريق بناء دولة المؤسسات مثل مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي . كما يعاني القضاء من تدخل سياسي مباشر من أطراف السلطة للتأثير على استقلاليته وقراراته . وكل هذا يقوض أسس الدولة ، ويحولها إلى مزرعة تابعة لترويكا الحكم مما أدى ويؤدي إلى انتهاك الدستور وقمع الحريات وممارسة ديكتاتورية فعلية بلباس مدني .
وفي ما يتعلق بالانتخابات البلدية ، لا أحد يعرف إن كانت ستجري أم تؤجل ، وذلك لغياب الثـقة التامة بالسلطة السياسية من قبل الشعب اللبناني . وفي الوقت الذي يؤكد كافة المسؤولين أن الانتخابات ستجري في مواعيدها ، لا نرى على الأرض أي تحرك أو نشاط يتعلق بالتحضير لها . آن خيار إجراء الانتخابات أو إلغائها يبقى قائما ، وان عدم إجرائها يعني ترك الأوضاع الخدماتية والتنموية في البلدات والمدن في حالة فلتان لغياب الحالة التمثيلية وهيمنة السلطة على مقدرات ما تبقى من البلديات عبر تكليف موظفين أو محافظين لتسييرها والإشراف عليها ووضع اليد على أموالها . وبذلك تصادر السلطة الحق الديمقراطي التمثيلي للناس . أما في حال إجراء الانتخابات والوصول إلى موعد الاستحقاق دون تحضير جدي وتعبئة شعبية وطرح برامج وخطط عمل للمرشحين فهذا يعني مفاجأة الناس دون استعداد وبالتالي يصل إلى المجالس البلدية من ترشحهم السلطة وتدعمهم وبذلك يصادر حق الناس مرة ثانية ويضرب العمل البلدي التنموي مجددا.
لذلك يجب التشديد في حركتنا واتصالاتنا على ضرورة الاستعداد والتحضير لهذه الانتخابات وكأنها حاصلة حتما . خاصة أن هذه الاستعدادات تشكل لنا مدخلا للتعبئة الشعبية والسياسية والنضالية والديمقراطية ، وتمتين العلاقة مع حلفائنا وأصدقائنا وتطويرها لصياغة رؤية مشتركة لخوض معركة البلديات .
وفي ظل هذه السلطة أصبحت الديمقراطية والحريات مهمشة وشكلية ، اذ لا يمكن أن تلتقي الحريات العامة والديمقراطية مع مناخ التوتير الطائفي والمذهبي ومع السيطرة على المؤسسات الثقافية والاجتماعية والديمقراطية وجعلها تحت سلطة سياسية طائفية . وما قيمة الحرية الإعلامية عندما تصبح معظم الوسائل الإعلامية على مختلف فروعها خاضعة لهيمنة رأس المال او لسلطة الطوائف والمذاهب . من هنا نشهد تفريغ مضامين الحرية والديمقراطية بشكل مدروس وذكي ، خاصة اذا علمنا أن الحريري قد اشترى بعض الوسائل الإعلامية وجيرها لخدمة مشروعه والترويج له ومحاصرة القوى الديمقراطية والمعارضة السياسية وبذلك صرنا نفتقد إلى إعلام يعبر تعبيرا صحيحا عن الحالة الشعبية والثورية .
وبناء على هذا التحليل والواقع ، نرى أن دورنا وعملنا يصبح أكثر صعوبة وتعقيدا ويتطلب أكثر جدية ومتابعة ، وعلينا أخذ هذا الدور على مستوى حجمنا وتأثيرنا ، إلا إننا نعرف أن دورنا وحده لا يمكن أن يشكل إنقاذا للوضع المتدهور لأن ذلك يتطلب جهودا مشتركة وحركة سياسية موسعة باتجاه توسع إطار المعارضة ووضع البرنامج الجذري والثوري للتغيير .