التقرير السياسي أذار ٢٠٢٠
ان الشرط اللازم لدفع الحكومة للسير نحو الخيارات الوطنية في البعدين الاقتصادي والمالي يفترض استمرار الضغط الشعبي والانتفاضة، رغم الكارثة الصحية التي نعيشها، وعلى قوى الانتفاضة مراقبة ومحاسبة الحكومة على سياساتها وابتداع الاشكال والوسائل الملائمة لتحقيق ذلك

التقرير السياسي أذار ٢٠٢٠

تعيش البشرية ازمتين مترابطتين من حيث الاسباب والمسببات، ازمة انسانية خطيرة تتمثل بانتشار فيروس كورونا وتحوله الى وباء عالمي حاصدا الاف الضحايا، وازمة اقتصادية عميقة تودي بالدول والشعوب الى الفقر والجوع والمرض، والوقوع في فخ الهيمنة والاخضاع لارادة الامبريالية ومؤسسات النهب الدولية، وذلك لان النظام الرأسمالي العالمي، في طور ازمته الحادة، أجّج الصراع الدولي للهيمنة والسيطرة على ثروات العالم وموارده، وسوّق لثقافة الاستهلاك بديلا عن الانتاج، خاصة في الدول التابعة والنامية، وكل ذلك يحصل على حساب انسانية الانسان وحقوقه في الحياة والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية، ما يفرض على البشرية وقوى التقدم والتحرر النضال من اجل نظام اقتصادي عالمي جديد يتحرر من قوانين الربح والنهب والهيمنة.
في ظل الكارثة الانسانية التي تعيشها البشرية، تُوغل الامبريالية الاميركية والعالمية في عدوانها على دول العالم وشعوبه، حروبا وحصارا وعقوبات مجرمة تطال حياة الناس اليومية وتحرمهم من ابسط مقومات الحياة الطبيعية، وتصّور الرضوخ للهيمنة والسيطرة الغربية قدراً لا مفر منه، وان الحلول للازمات السياسية والاقتصادية والانسانية بيدها وحدها، فمن يرضخ ينجو ومن يعصي يسير نحو الهلاك. وفي الازمة الصحية الراهنة، كشف النظام الرأسمالي النيوليبرالي في الدول المتقدمة عن طبيعته المتوحشة حتى بين أطرافه، إذ تم التخلي عن الدول “الاضعف” داخل النظام، ايطاليا واسبانيا، بينما لجأت الدول “الاقوى”، المانيا وفرنسا وبريطانيا، الى التعاطي مع الكارثة الصحية باعتبارها أزمة داخلية، وحاولت الولايات المتحدة الاميركية النأي بنفسها وعزل البلاد عن الخارج قبل الاعلان عن حجم الاصابات بالفيروس. وتتصارع الدول الرأسمالية المتقدمة على انتاج دواء او لقاح للفيروس لتعظيم ارباح الشركات الكبرى على حساب عذابات البشرية. بينما تعاين البشرية نموذجاً آخراً حياً، أي النظام الاشتراكي في الصين كيف يصارع الوباء ويحاول بنجاح السيطرة عليه والحد من انتشاره، فبعد ان تحولت الصين الى أول منافس للنظام الرأسمالي المتوحش وثاني اكبر اقتصاد عالمي، ها هي تحقق الانجاز الاهم، ليس لشعبها فقط، بل للبشرية جمعاء، فقد ادارت الصين الازمة في التعامل مع فيروس كورونا بطريقة علمية وبأهداف انسانية، واتخذت الاجراءات الوقائية والعلاجية من خلفية انسانية حريصة على حياة الناس وبعيدا عن حسابات الربح والاستغلال، وباتت نموذجا يحتذى به في الدول الجادة في مكافحة الوباء. حتى انها بعد أن نجحت في السيطرة على الوباء وتراجعت اعداد الاصابات والوفيات انتقلت، مع كوبا وفنزويلا، إضافة الى روسيا، الى موقع الدولة الاولى في تقديم المساعدة للدول المنكوبة في النظام الرأسمالي العالمي كما في الدول النامية، لتتأكد حقيقة النظام الرأسمالي المولّد للازمات والحروب والكوارث الصحية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية لأنه قائم على قوانين الربح والاستغلال والنهب والهيمنة، بينما أظهرت النظم الاشتراكية والتقدمية أنها تتعامل مع الازمات من منطلق ان الانسان هو القيمة الاعلى، مما يؤكد ان التضامن الانساني الاممي بين الدول والشعوب هو الطريق الرئيس لمواجهة فيروس كورونا وغيره من الكوارث، كما هو السلاح الاجدى في مواجهة الكارثة الرأسمالية.
سيدخل النظام الرأسمالي العالمي طورا جديدا في أزمته العامة ربطا بتفشي وباء كورونا، إذ أن الاقتصاد العالمي يعاني من نقاط ضعف مختلفة عمّا كان يعانيه قبل الأزمة المالية 2008، حيث أضحى العالم مثقلا بالديون أكثر مما كان عليه الحال حين اندلعت الأزمة المالية الأخيرة. إن الميزانيات المالية الهائلة المقترحة لمواجهة الفيروس، وتوقف النشاط الاقتصادي العالمي في مختلف فروعه، وتصاعد مستويات البطالة، والضغط على منظومات الرعاية الاجتماعية والصحية، وانهيار أسعار النفط، وخسائر أسواق الاسهم والبورصات العالمية، وتأثر الشركات باحتمال التوقف المفاجئ لتدفقاتها النقدية، وعزل الدول وإغلاق الحدود والانكفاء الى الداخل وتهافت آليات العولمة وشل التجارة العالمية، وتضرر الشركات الكبرى في قطاعات السيارات والفنادق والنقل، فضلا عن التداعيات الخطيرة للمطارات المهجورة والقطارات الفارغة، إن أثر هذه العوامل مجتمعة على النشاط الاقتصادي، خاصة إذا طالت مدة جائحة كورونا، ستزيد من احتمال حدوث أزمة مالية، ولا سيما في ظل تخلّف الشركات التي تعيش على الديون عن السداد مثلما حدث خلال أزمة الرهن العقاري الخطيرة في العام 2008. بالاضافة الى ذلك ستتزايد المخاوف من انهيار الطلب على السلع مقابل وفرة العرض وإغراق السوق بها، كل ذلك سيؤدي الى مرحلة من الكساد والركود التي ستصيب اسواق الرأسماليات الكبرى أكثر ويتيح للإقتصاديات الناشئة فرصةً أسرع للتعافي، إن هذه التطورات، خاصة بعد انجلاء وباء كورونا ستدفع بالصراع الدولي الى طور جديد ترتسم ملامحه خلال هذه الازمة، تراجع قيادة الولايات المتحدة للعالم وتقدم دور الصين مما سيؤدي الى بروز النظام الدولي الجديد الذي ينهي مرحلة القطبية الاحادية ويزيل آثارها لمصلحة نظام عالمي متعدد الأقطاب يكون للدول الناشئة دورا محوريا فيه.
في ظل هذه الازمات العالمية، تصعّد الامبريالية الاميركية وادواتها الاقليمية عدوانها على منطقتنا لإخضاعها ونهب ثرواتها وربطها بالمحور المعادي تحقيقا لمشروعها الاستراتيجي لتصفية القضية الفلسطينية وضرب قوى المقاومة، دولا وحركات، لإعادة رسم خريطة المنطقة الجيوسياسية بما يحقق مصالحها السياسية والاقتصادية وأمن الكيان الصهيوني وتأبيد الهيمنة.
غير ان رياح المنطقة جرت على عكس ما تشتهي سفن الامبريالية، فقد كُسر الهجوم الكوني على سوريا، وأُفشل العدوان الاميركي الصهيوني السعودي على اليمن، وافتُتحت معركة طرد الاحتلال الاميركي من العراق، ونجا لبنان من فخ الفوضى والحروب المذهبية والطائفية، وبقيت فلسطين، بشعبها ومقاومتها، عصية على الاستسلام، وهي تبتدع اساليب مقاومتها وصمودها رغم المناخ الرسمي العربي الموغل في التواطؤ والتآمر والتبعية للامبريالية العالمية.
ان قوى الارهاب والعدوان على منطقتنا في مأزق حقيقي، فالادوات الارهابية تتهاوى، وتركيا الاطلسية المشتبكة مع الاتحاد الاوروبي على خلفية رفض عضويتها وأزمة اللاجئين، تغرق في معركة استنزاف في مواجهة الجيش العربي السوري وحلفائه من قوى المقاومة وتستنجد بأصدقاء سوريا واعدائها للخروج من المأزق في ظل أزمة داخلية على خلفية تدخلاتها وأطماعها لاستعادة دورها الاقليمي، والسعودية واقعة بين حدَّي الهزيمة والخسارة في اليمن، وكيان العدو يتخبط في ازماته الداخلية الناجمة عن تراجع قوة الردع وفقدان الدور الوظيفي ومأزق الديموغرافيا المتغيرة وعجزه العسكري في المواجهة حتى مع غزة المحاصرة رغم جرعة الدعم الاميركية المتمثلة بصفقة القرن وتهافت النظام الرسمي العربي على تبنّيها.
ويأتي القرار الاستراتيجي لمحور المقاومة بإخراج القوات الاميركية من المنطقة، في سياق تاريخي، ليؤشر على افق معركة التحرر الوطني من الهيمنة الامبريالية والعدوانية الصهيونية. ان انجاز هذا الهدف يفتح افقا جديدا لبلورة مشروع نهضوي تقدمي في منطقتنا يرسم الطريق نحو التنمية المستقلة والسيادة الناجزة وفق تطلعات شعوبنا ومصالحها، وبذلك يتقاطع الصراع التحرري مع الصراع الطبقي، أي المسألة الوطنية مع المسألة الاجتماعية، في سياق المواجهة بين قوى الهيمنة العالمية وبين النظم والقوى السياسية الاقليمية والمحلية المناهضة لها.
ان الانجازات والنجاحات التي حققتها شعوبنا وقواها المقاوِمة في مواجهة الهجوم الامبريالي، وتعثر هذا المشروع وتراجعه في بعض الساحات، لا يعني بالضرورة تحقيق هزيمته الكاملة، فالامبريالية، والنظام الرأسمالي العالمي أجمع، يمتلكان من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ومن جيوش الاحتياط (ارهابيين وفاشيين ومرتزقة) ومن المصالح الحيوية في منطقتنا والعالم ما يدفعهم باستمرار الى تجديد مخططاتهم ومشاريعهم العدوانية والتدميرية، وتفجير الصراعات الداخلية الطائفية والعرقية، وتأجيج النزعات التقسيمية والانفصالية، ما يستدعي من قوى المقاومة والمناهِضة للهيمنة البقاء في حالة الاستعداد والجهوزية. كذلك على القوى التقدمية والثورية والشعبية الانخراط في هذا الصراع الوطني، كل من موقعه الفكري والسياسي والاجتماعي، وعلى قاعدة تحديد التناقض الرئيسي، لإسقاط الهيمنة والسيطرة الامبريالية وانجاز مرحلة التحرر الوطني والاجتماعي.
الانتفاضة في لبنان
انفجرت انتفاضة شعبية غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، رفعت شعاراتٍ سياسيةً واجتماعيةً واضحةً وجامعة، تجاوزت التحركات المطلبية والقطاعية والمناطقية، مستفيدة من رصيدها التاريخي، انتفاضة في مواجهة النظام السياسي الطائفي التابع، وضد النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المدمر الذي ساد بعد الطائف، وانخرطت في هذه الانتفاضة شرائح واسعة ضمّت المتضررين من النهج الاقتصادي والاجتماعي للسلطة، بالإضافة الى فئات من الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة وحتى أجنحة من البرجوازية المهمشة في نظام المحاصصة والنهب. وحققت الانتفاضة في عمرها القصير العديد من الانجازات التي يجب البناء عليها لاستمرار المواجهة وتجذيرها لفتح أفق حقيقي نحو التغيير.
ان البنية الاجتماعية اللبنانية، كما بنية النظام السياسي، شديدة التعقيد، تتداخل فيها الانتماءات والولاءات الوطنية والاجتماعية والدينية الى درجة تلاشي الحدود بينها، وهذا ما يعيق بلورة المشروع السياسي البديل للنظام القائم، ورغم ضعف الامكانيات والقدرات الذاتية لقوى التغيير ومحدوديتها، الا ان افق التغيير يبقى متاحا امام حركة معارضة سياسية جدية وحاسمة في خياراتها ومشروعها، وبالاستناد الى حركة شعبية عابرة للانتماءات الطائفية والمناطقية والعشائرية، حركة تجمع المتضررين من سياسات النظام وبنيته وشبكة علاقاته الداخلية والخارجية.
حملت انتفاضة 17 تشرين ملامح ثورية واعدة وزرعت بذور الوعي الطبقي في جموع الكادحين والفئات الشعبية المنتفضة في الشارع خلال أشهر قليلة. إن الوعي السياسي الطبقي الذي برزت ملامحه خلال الانتفاضة المجيدة يحتاج لسنوات طويلة من العمل الثقافي والسياسي والتنظيمي “التقليدي” حتى يعبّر عن نفسه بالطريقة التي سادت، لان وتيرة الصراع الميداني والمباشر سرّعت في بلورة القضايا الوطنية والاجتماعية وربطت بين مصالح الطبقات الكادحة مباشرة، كما انها خلقت الادوات والآليات النضالية الملائمة، التي كان ممكناً لها ان تؤدي الى صقل القدرات الجمعية وإنتاج القيادة الثورية الميدانية لتشكل رافدا واعيا لقوى التغيير، او لتأخذ زمام المبادرة في قيادة الانتفاضة في حال تخلف تلك القوى عن دورها التاريخي.
إن محاولات تشويه الانتفاضة وشيطنتها انطلقت منذ تفجرها، وذلك عبر اتهامات واعتداءات على المنتفضين وتخوينهم وقمعهم بوحشية، كذلك عبر محاولات لربطهم – كلهم – بأجندات خارجية معادية لمصالح شعبنا وقضيتنا الوطنية. ترافق ذلك مع دور بارز لبعض قوى المجتمع المدني المشبوهة والمموَلة اميركيا واوروبيا، والسعي الحثيث من قوى سلطوية قفزت من المركب قبل غرقه وركبت موجة الانتفاضة لتلميع صورتها وتحسين مواقعها وتحميل قوى السلطة الاخرى مسؤولية الانهيار الحاصل للعودة المظفرة لاحقا الى جنة السلطة كمنقذة للبلد من الانهيار. ان تسلق جماعة التمويل الخارجي وقوى السلطة الاكثر فسادا ونهبا وتبعية للمشروع الاميركي، ليس مسؤولية قوى الانتفاضة السياسية والوطنية، وانْ كان على هذه القوى أن تقوم بعملية الفرز معها والتمايز عنها مبكرا، وذلك عبر طرح شعارات وبرامج مبلورة ومتميزة، وأخْذِ مسافة أمان سياسي منها وتحديد الهوية الوطنية للانتفاضة، بل وفضح مواقف تلك المجموعات المشبوهة ومواقعها الوطنية والطبقية، ان هذه التوجهات لو جرى تحقيقها مبكرا لأخذت الانتفاضة الشعبية الحقيقية شكلاً سياسياً ونضالياً مستقلاً ميّزها عن كل أطراف النظام وعن القوى ذات الاجندات السياسية الخاصة والمتموضعة في موقع العداء لقوى المقاومة وللقضية الوطنية بشكل عام.
لقد ارعبت الانتفاضة الطبقة المتحكمة، الاوليغارشية، ووضعت قوى السلطة تحت المجهر الشعبي، حتى بات المسؤولون يتحسسون رؤوسهم خوفا من المحاسبة والملاحقة الشعبية، وحاول اغلبهم، ان لم يكن جميعهم، مسايرة الانتفاضة والانتساب لها وتبني شعاراتها ومطالبها لامتصاص الغضب الشعبي. ومع استمرارها زخما ومناخا عاما في وعي الناس وفي الشارع، وبروز اشكال من الممارسة الثورية المستندة الى الفكر العلمي كفعل منظمٍ وواعٍ، لم تبادر القوى اليسارية والتقدمية الى تظهير قواها في أطر قيادية للانتفاضة مما يكشف ان الازمة لا تطال السلطة فقط، بل انها تطال قوى االتغيير ايضا. ان تغلغل خطاب المجتمع المدني الممول من الدول الامبريالية في أدبيات الانتفاضة (حكومة تكنوقراط، حكومة محايدة، التدخل الخارجي، تحييد مصرف لبنان والمصارف عن الاستهداف، التركيز على الفساد كقضية قائمة بذاتها…) وتأثير هذا الخطاب على مشروع اليسار وتجذره داخل الطبقات الشعبية، يمكّن القوى المرتبطة بالدول الغربية والمؤسسات الدولية من التشكيك بمشروع المقاومة الجذرية لمشاريع الهيمنة الامبريالية ويساعد على تخريب بنية اليسار من داخله.
وبعد تأخير غير مبرر لبلورة البرنامج السياسي، لا يمكن تفسيره الا بعدم وضوح الرؤية السياسية او التهيّب من المبادرة في قيادة الجماهير المنتفضة، ولتجاوز هذه المعوقات أقدمت بعض قوى اليسار المنخرطة في الانتفاضة، في آذار 2020، مع مجموعات شبابية تُمثل بعض ساحات الحراك، وعدد من الشخصيات الوطنية، السياسية والفكرية والاجتماعية والنقابية، الى اعلان المرجعية السياسية للانتفاضة، (لقاء التغيير.. من أجل لبنان ديمقراطي)، برؤية برنامجية تمثل حدا موضوعيا لإئتلاف متعدد المشارب السياسية والفكرية والاجتماعية. ان شرط نجاح واستمرار هذا الاطار يرتبط برؤية متكاملة للصراع الوطني والطبقي، وببرنامج واضح استراتيجي وراهن يحدّد الاولوّيات والآليات، وينطلق من ضرورة تغيير بنية النظام السياسي الطائفي وتحريره من الهيمنة الامبريالية، وليس من خلفية إصلاحية للنظام تساعده على إعادة إنتاج نفس البنية بعناوين سياسية وطائفية مجدَّدة.
لقد حققت الانتفاضة منذ تفجرها العديد من الانجازات الواضحة والراسخة، وأخذت بُعدا سياسيا وطبقيا لا لُبْس فيه، وأعادت الناس الى السياسة بعد إقصائها عنها لعقود، واسقطت حكومة سعد الحريري في الشارع، وان أضفى التأييد الاميركي لرحيلها إلتباساً مقصوداً حول دور القوى التي أسقطتها، غير ان سقوطها كان حتميا مع تصاعد الغضب الشعبي والرفض المطلق لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والمالية، وتحميلها المسؤولية المباشرة، كما الحكومات المتعاقبة منذ التسعينيات، عن الازمة والانهيار الشامل. كذلك انفجرت على وقع الانتفاضة التناقضات الحادة بين أطراف النظام المؤتلفين في السلطة منذ الطائف. كما ان شمول الانتفاضة كافة المناطق اللبنانية تحت عناوين وشعارات موحدة او منسجمة يحصل للمرة الاولى في تاريخ لبنان الحديث، إضافة الى جذبها فئات واسعة من جمهور القوى المكونة للسلطة السياسية والطائفية الى موقع الاعتراض، وتحويل ساحات الانتفاضة الى مدارس للتثقيف والحوار والتفاعل. كما دلّت مواجهات المنتفضين العنفية مع القوى الامنية، حتى المدفوعة من قوى سلطوية، على مخزون الحقد الطبقي ضد ركائز النظام الرأسمالي المتوحش، كمصرف لبنان وكافة المصارف الاخرى وسوليدير، وتحميلهم مسؤولية الافقار والتجويع والنهب المنظم والانهيار الاقتصادي والمعيشي والمالي، ما أكد على تبلور وعيٍ طبقيٍ يتنامى لدى شريحة واسعة من جماهير لبنان.
لقد فرضت الانتفاضة على مدى ثلاثة أشهر، ازدواجية السلطة على الارض، وذلك عبر السيطرة على الشارع، وتحويل الساحات والمساحات العامة الى اماكن للتفاعل بين الناس، والتأثير في حركة الاقتصاد وعمل المؤسسات العامة، وإمساك الطلاب بقرار المؤسسات التعليمية والتربوية، واحتلال بعض المؤسسات العامة، وإجبار السلطة على بعض الاجراءات المتعلقة بدفع فواتير الخلوي بالليرة اللبنانية وخفض الفوائد، وإجبار المصارف على الدفع لصغار المودعين بمواكبة من المنتفضين، وبروز المبادرات الشعبية في الساحات لتأمين الطعام والمياه ووسائل التدفئة وحماية الناس والخيم في الساحات والميادين… ان تطوير هذه التجربة وبلورتها وتنظيمها تبقى مهمة قوى التغيير الجذري للدفع بها نحو مستوى أعلى وأشمل كشكل للسلطة الشعبية في زمن الانتفاضة، وهذا يتطلب من القوى الجذرية تنظيم الساحات وتشكيل المجالس الشعبية المحلية التي تمثل المكونات السياسية والاجتماعية والشعبية في كل ساحة، على ان ينبثق عنها مجلس مركزي تمثيلي يضم مندوبي مجالس الساحات المحلية لتنسيق التحركات ووضع البرامج والشعارات الموحدة والمتزامنة، لتظهير وحدة الانتفاضة في مختلف المناطق بالموقف والفعل، وإبراز التناقض مع النظام كنظام شامل وعدم التركيز على بعض أطرافه مما يؤدي الى استفزاز جمهورها، والتي على قوى الانتفاضة العمل على فكها عن مرجعياتها وجذبها الى موقع مصلحتها الطبقية.
ان هذه الانجازات والنجاحات لقوى الانتفاضة الوطنية يجب ان لا تحجب نقاط ضعفها، فقد غابت القضية الوطنية بوضوح عن خطاب هذه القوى وشعاراتها، حتى انها انساقت او سكتت عن التعرض لقوى المقاومة، وخاصة الاسلامية، في بعض ساحاتها ومن بعض جمهورها، وكذلك الانجرار، أحيانا، الى منطق القوى الخارجية والداخلية المعادية للمقاومة، والترويج لمفهوم خاطئ يسيء الى الانتفاضة نفسها وهو يعتبر أن القضية الاجتماعية، أي المسألة الطبقية، هي في حالة صدام مع القضية الوطنية (أي مسألة المقاومة والصراع مع الامبريالية والصهيونية). ولقد تلاقى هذا الطرح مع طرح لقوى أخرى نظرت الى القضية الاجتماعية كنقيض للمسألة الوطنية، فكانت المحصلة بروز منطقان خاطئان أدّيا حكما الى إضعاف الانتفاضة والحد من تحشيد الفئات الشعبية المتضررة. ان موقفنا كان ولا يزال يؤكد على الترابط بين القضيتين وأن إضعاف نظام الهيمنة والسيطرة الامبريالية هو إضعاف للنظام اللبناني والطبقة المسيطرة، كما ان زعزعة ركائز النظام السياسي التابع في لبنان هو زعزعة لنظام الهيمنة والسيطرة الرأسمالي العالمي.
أما فيما يتعلق بمرحلة البحث والمشاورات لتشكيل الحكومة العتيدة، فلقد سعت الادارة الاميركية الى فرض الشروط السياسية والاقتصادية للموافقة على الحكومة الجديدة، وذلك بهدف إخراج المقاومة من السلطة السياسية تمهيدا لعزلها وتحميلها مسؤولية الازمة والانهيار، وكذلك سعت لاستمرار النهج الاقتصادي والمالي للحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف. لقد ترافق ذلك مع احتدام التناقضات بين أطراف السلطة حول برنامج الحكومة وخياراتها السياسية والاقتصادية المستقبلية مما أسقط صيغ حكومات “الوحدة الوطنية” التي سادت منذ الطائف لمصلحة حكومة الاكثرية النيابية، فوُلِدت حكومة حسان دياب التقنية برعاية قوى الاغلبية السياسية، حكومة أشاعت بوزرائها ومواقفها وادّعاء انتسابها للانتفاضة بعض الارتياح للشارع. مما أدى ضمنا الى شيوع قناعة لدى المنتفضين بضرورة اعطاء فرصة للحكومة الجديدة على ان يبقى اداؤها تحت مجهر الرقابة الشعبية، بالاضافة الى توسيع التمايز وتظهير التعارض مع قوى “المعارضة” السلطوية كونها المسؤولة عن تردي البنى التحتية وهشاشة الاقتصاد الريعي وسوء منظومة الرعاية الاجتماعية والصحية.
ان القرار الحكومي بالتخلف عن دفع استحقاق اليوروبوند الذي أقدمت عليه حكومة دياب يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح أقدمت عليه المنظومة الحاكمة الخاضعة لهيمنة مؤسسات النهب الدولية، وفي نفس الوقت هو قرار اضطراري تبعا للاوضاع المالية المنهارة. غير ان قرار التخلف وحده لا يؤشر الى توجه الحكومة لمعالجة الازمة العامة ضمن رؤية شاملة تطال أعطابَ الاقتصاد الوطني ومنظومة الرعاية الاجتماعية بدليل التناقض في الموقف من التخلف عن الدفع والعودة للاستعانة بصندوق النقد الدولي، وبالتالي الرضوخ لوصفاته المدمرة للبنية الاقتصادية والاجتماعية. ان تأخر حكومة دياب عن إعلان خطتها الاقتصادية يترك شكوكا حول توجهاتها الفعلية، لان المدخل للخروج من الازمة الراهنة ووقف الانهيار له عنوان رئيسي، وهو تبني نموذج اقتصادي نقيض للنموذج القائم، عماده اقتصاد منتج يعتمد على الصناعة والزراعة والاستثمار في التكنولوجيا والمعرفة، مع دور مباشر للدولة دعما وتطويرا وحماية لقطاعات الانتاج، وإعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا بما يخدم المصلحة الوطنية اولا على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، خاصة ان سوريا هي المعبر الوحيد للتصدير اللبناني الى البلاد العربية، كذلك حسم الخيار الاقتصادي بالتوجه شرقا نحو الصين وروسيا وايران والاقتصادات الناشئة لتأمين شبكة حماية دولية للاقتصاد الوطني يحرره من الهيمنة والسيطرة الامبريالية.
غير ان الجريمة الوطنية التي ارتكبتها السلطة “بتبرئة” جزار الخيام العميل عامر الفاخوري، وصمت حكومة دياب، يؤكد ما نذهب اليه دوما، بأن الصراع هو مع بنية وجوهر النظام اللبناني الخاضع للغرب الاستعماري بكل مؤسساته واجهزته وطبقته الحاكمة، ان إقدام الحكومة على بعض الاجراءات الايجابية في المجال المالي، والادارة العلمية والعملية في مواجهة الازمة الصحية لا يعفيها من مسؤولية التغاضي او السكوت عن قضية وطنية حساسة تتعلق بتضحيات وعذابات الآلاف من المقاومين والشهداء والاسرى والمواطنين الذين نكّل بهم الاحتلال الصهيوني وادواته العميلة.
ان الشرط اللازم لدفع الحكومة للسير نحو الخيارات الوطنية في البعدين الاقتصادي والمالي يفترض استمرار الضغط الشعبي والانتفاضة، رغم الكارثة الصحية التي نعيشها، وعلى قوى الانتفاضة مراقبة ومحاسبة الحكومة على سياساتها وابتداع الاشكال والوسائل الملائمة لتحقيق ذلك. ان اجراءات وقرارات الحكومة تدل على الانقسام الحاد في بنية النظام السياسي، ما يستدعي تظهيره وتعميقه وتوسيعه لمصلحة الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا ضحايا منظومة النهب والتبعية، وللدفع بالصراع التحرري الوطني والطبقي في مواجهة الاوليغارشية والطبقة المهيمنة وفرض محاكمة منظومة مصرف لبنان وحاكمه والمصارف وكل اطراف الطبقة الحاكمة، وفي مواجهة مشروع النهب الامبريالي، لضرب التماسك بين هذا النهب واستقواء الناهبين المحليين بثقل الحضور الاميركي والخليجي في السياسة اللبنانية، وهنا لا بد من الإشارة مجددا الى خطورة دور المموَّلين وبعض مدّعي اليسار في منع او عرقلة تفكيك هذا التماسك سياسيا وتنظيميا وأيديولوجيا.
ومن المهم هنا التأكيد على دور الدولة في مواجهة كارتيلات الاحتكار المختلفة، التي تنظّر في فترات الرخاء وتحقيق الارباح لتقليص دور الدولة وكف يدها بخصخصة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية العامة، ووصمها بالتاجر الفاشل والجسم المترهل، في الوقت الذي ينسحب القطاع الخاص في الازمات الكبرى ومرحلة الخسائر ويطالب الدولة بتحمل مسؤولياتها، وينتظر اللحظة المناسبة لاقتناص الفرصة لتعظيم ارباحه بعد الازمة، غير ان الازمات العامة تطال اول من تطال القطاع الخاص القائم على الريع والربح السريع، ويفتقد لمقومات الاقتصاد المتين المرتبط بالانتاج وحاجات الناس، لذلك يبقى عنوان رفض الخصخصة وبرامج الشراكة بين القطاع العام والخاص مدخلا لبناء دولة المؤسسات والقانون والرعاية الاجتماعية.
ويبقى ان مواجهة الكارثة الصحية المستجدة تتطلب خطة رسمية، من وزارة الصحة والحكومة ومؤسسات الدولة لاحتوار الوباء عبر خطة صحية شاملة وتجهيز القطاع الاستشفائي ورفع جهوزيته، وخطة إعلامية لشرح مخاطر الوباء وطرق الوقاية منه لرفع وعي المواطنين لمخاطر هذا الوباء، واتباع الاجراءت الواجبة للحد من انتشاره، وتعزيز ثقافة التعاون والتضامن الاجتماعي للحد من تأثيراته السلبية على حياة الفئات الشعبية ومستوى معيشتها ما يخفف من وطأة الازمة المستجدة من خلال المبادرات الشعبية والاجتماعية على المستوى الغذائي والصحي، خاصة بعد الالتزام بالعزل المنزلي وتوقف الحركة الاقتصادية وتعطيل عمل الفئات الاكثر تهميشا من المياومين وبائعي البسطات والسائقين والموظفين في الشركات والمؤسسات”المتعثرة” التي لجأت الى هذه الاجراءات منذ أشهر سابقة، بسبب او بذريعة الازمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية، ما فاقم التدهور المريع في مستوى معيشة الفئات المتضررة. وتأتي مبادرتنا في اطلاق “المطبخ الشعبي” لتأمين الوجبات الرئيسية للأسر المحتاجة في هذا الاطار، وهذه المبادرة ليست بعيدة عن فكرنا الثوري، فكان حزبنا من المبادرين في إطلاق المشاريع التضامنية والتعاونية بين الفئات المتضررة، من تجربة التعاونيات الزراعية، وخاصة تجربة الجاهلية، الى حملات تعليم الكبار ومحو الامية في اوساط العمال والصيادين ومساعدة الطلاب، هذا عدا عن دورنا في مواجهة النظام السياسي الطائفي، والتصدي لقوى اليمين الفاشي، عميلة الكيان الصهيوني، كل هذه التجارب يجب استعادتها اليوم للاسترشاد بها في التصدي للازمة الاقتصادية المترابطة مع الكارثة الصحية، ولنكون الى جانب جماهير شعبنا التي قدمت التضحيات الجسام دفاعا عن القضايا الكبرى، قضية التحرر الوطني والاجتماعي.

الحزب الديمقراطي الشعبي                                                                                بيروت في ٢٥ اذار ٢٠٢٠ 
المكتب السياسي