زميلي في الكلية وبوليصة التأمين*
انتهى الحوارالشاق وحَمدتُ ربي أن ميولَ زميلي ليست انتحارية فهو لا يؤمن أنه سيلتقي بالحوريات يوماً ما وفي نفس الوقت يدرك أيضاً أن بوليصة التأمين تُصبح باطلة فوراً فى حالة قتل النفس. لكننا إتفقنا أن ننتظر بزوغ فجرٍ جديدة يعيد الأمل للكادحين بالتغيير على أن نساهم في هذه العملية بحسب إمكانياتنا وكلٍ من موقعه

زميلي في الكلية وبوليصة التأمين*

بقلم الرفيق تأبط شراَ

إتصل بي البارحة زميلي في الكلية وقال: “دعنا نحتفل بمناسبة شرائي اليوم بوليصة للتأمين على الحياة”. وبالفعل هنأته من كل قلبي ووعدته بأن نشرب كأساً من النبيذ عندما نلتقي.

ولي مع زميلي في الكلية قصة صغيرة تعود الى أيام الحرب الاهلية في لبنان. وللتذكير فقط دُعيت هذه الحرب بالاهلية لانها نشبت بين أهل لبنان وإتخذت طابعاً دموياً لأنها كانت حرباً ضروساً أكلت الأخضر واليابس و”الما بين بين”. أما الحرب الأخرى، التي لم تتوقف، فهي وان كانت سلمية و”عالخفيف” فهي عالمية الطابع وتفتك بالبشرية على الناعم. واليكم الدليل على ما أقول. فزميلي في الكلية ولد لعائلة لم تسقط تحت خط الفقر، إمتلكت بيتاً في احدى قرى الجنوب، وراحت تزرع تبغاً في حاكورةٍ صغيرة خلف البيت اما افراد عائلة زميلي في الكلية، مثل زميلي نفسه، درسوا في مدرسة القرية قبل ان تدمرها اسرائيل وعندما بلغوا هاجروا الى دول عربية نفطية واخرى افريقية سعياً الى الرزق ولينشروا “الرسالة اللبنانية” كما تقول مقولة الانتشار اللبناني العتيدة. اما زميلي فأبى أن يغادر ربوع لبنان والتحق بدار المعلمين وتخّرج استاذاً مرموقاً ولحسن حظ قريته وابناء قريته عُّين في مدرسة القرية نفسها فراح يؤدي واجبه على أكمل وجهه. لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر اذ اجتاحت اسرائيل جنوب لبنان عام ١٩٧٨ فإضطر صديقي وما تبقى من عائلته الى النزوح الى بيروت الغربية فأمن له الحزب منزلاً مؤقتاً في حي الوتوات وراح يمضي أياماً من الاسبوع يُعلم في مدرسة القرية وأياماً اخرى ينزح الى منزله الوتواتي. وفي لحظة مجيدة قرر زميلي أن يتابع دراسته الجامعية فإلتحق بالجامعة اللبنانية وهي لا تبعد اكثر من بضع مئات من الامتار عن منزل النزوح وحيث كان محسوبكم-أي أنا العبد الفقير كاتب هذه السطور- يباشر دراسة العلوم السياسية في نفس الجامعة فإلتقينا وتصادقنا وأصبحنا من أعز الاصحاب. فرحت ازوره في بيته الوتواتي كلما سنحت لي الفرصة او كلما اشتد حزن القلب حتى نتبادل همومنا

لم تمضِ سوى ايام قليلة على الاحتلال الصهيوني للجنوب حتى عَرف صديقي أن منزل عائلته في القرية قد نُسف على ايدي القوات المحتلة لأن القوات المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية استخدمته خلال تنفيذها لاحدى العمليات ضدها. لم يأبه صديقي بدايةً لهذه العمل البربري لأنه اعتبر أن هذا أقل ما يقدمه فداء للوطن. لكنه طلب من وزارة التربية نقل عمله الى بيروت والحمدلله استجابت الوزارة لطلبه. وراح صديقي وزميلي يعمل ساعات اضافية، على سيارته التي حوّلها الى

تاكسي، لسد حاجة العائلة المتزايدة في بيروت في ظروف معيشية صعبة بيد أن الغلاء والتضخم وارتفاع سعر الدولار لم يوفر لصديقي حلاً فلجأ الى الاستدانة من احد أقاربه المهاجرين. وراح صديقي يعمل ويدرس وثم يعمل حتى أناخ التعب عليه بكلكله. ومع كل هذا لم يتوقف عن الاستدانة من قريبه في أفريقيا حتى أغرقته الديون هنا قرر أن يقفل “الحنفية” كما يقولون في العامية. تضايق صاحبي كثيراً ووصل الى حد اليأس لكنه عاد وانتفض لأنه يحب الحياة ويحب اولاده وزوجته وأصدقاءه فقرر أن يهاجر الى أميركا حيث أن أخبار “التوفيقات” كانت ترد باستمرار الى مسامعه عبر أمه وزوجته التي كان لها اخوة هناك يعملون في بلاد العم سام.

غادر صديقي رحاب الوطن “لينشر الرسالة اللبنانية في العالم” وعلى كتفيه الألوف المؤلفة من الدولارات كدين لوجيه عائلته في افريقيا. بدأ العمل تواً بعد يومٍ او يومين من وصوله فإستلم وظيفة عند أقاربه في محلٍ لبيع الجرائد آملاً باكمال دراسته وحصوله على الشهادة العليا التي تمكنه من التدريس في احدى الجامعات. قَبِلَ صاحبنا بظروف العمل الصعبة وتحمل الكثير حتى يصل الى هدفه. لكنه لم يستطع أن يلبي حاجات اسرته الصغيرة بسبب معاشه المتواضع وعجز أيضاً عن وفاء ديونه السابقة بل راح يستدين من اقاربه في أمريكا ليدفع جزءاً من دينه هذا حتى تمكن أخيراَ من الحصول على الاقامة في أميركا والتي بدورها تخوّله من الاستفادة من القروض الميسّرة التي توفرها الحكومة الاميركية للطلاب الجامعيين حتى لا يثوروا ضدها. تقدم زميلي الى دائرة القروض في الجامعة بطلبٍ للاستدانة فقبل طلبه على الفور. أخبرني لاحقاً بحقيقة شعوره الكبيرعندما استلم الشيك فهرول الى أول بنك ليصرفه وبالفعل ما هي إلا لحظاتٍ معدودةٍ حتى إمتلأت جيوبه ببضعةِ الآفِ من الدولارات. قال لي إن عينيه إغرورقتا بالدموع لأنها كانت المرة الوحيدة التي ملك بها هذا المبلغ من المال. لكن الذي حدث في الحقيقة هو أن هذا كان دينا جديدا رُّكب على ظهر صاحبنا فتضاعفت قيمته الاجمالية حتى أنها بلغت رقماً كبيراً عند تخّرجه بشهادة الدكتوراه. وليكمل رحلته مع الدين اشترى زميلي منزلاً حتى “تكمل” مع الدكتور الذي لا يجوز ان يبقى ساكناً في منزل كمنازل “المشحرين” فإقترض من البنك مبلغاً كبيراً تجاوز الربع مليون دولار وعندما نجمع هذا القرض مع الدين السابق فأننا أمام كميةً من الديون التي لا تقل عن نصف مليون دولار. ويعمل زميلي الآن “متل الفرنينة” وبشكل متواصل حتى لا يٍقصّر في دفع المستحقات الشهرية للبنك لأنه، لاسمح الله، سيضطر الى التنازل عن البيت للبنك اذا حصل ذلك. ولكي يحمي عائلته من “غدرات الزمان” إشترى زميلي بوليصة تأمين على الحياة قيمتها مئة ألف دولار عند الموت. هذا ما اتحفني به البارحة صديقي العزيز وزميلي منوهاً أن قيمته إذا كإنسان هي أهم وأغلى عندما يموت من قيمته حياً “يُرزق”. وأضاف صديقي قائلاً أنه منذ نعومة أظافره كان مديوناً لأحدٍ ما: لصديقه، مثلاً، الذي كان مراراً يدفع عنه في السينما او لامه حتى يشتري علبة دخان ليبدومثل الخواجات،اولأخيه الذي كان يأخذ منه ثيابه المستعملة، وسافر الى أميركا بالدين، وتزوج بالدين وتعلم بالدين ويسكن الآن تحت رحمة البنك. إذن، فإن حياته هي مجموعة سلاسل من الدين لا فكاك منها. لهذا

يعتقد صديقي جازماً أن قيمته هي اذن عندما يموت حيث يُؤمل أن تسدد بوليصة التأمين جزءاً كبيراً من ديونه بالاضافة الى إعفائه من قرض البنك لشراءالمنزل اذ إن البنك يفرض على الدائن أن يشتري بوليصة تأمين على القرض يحصل شريك الدائن على الاعفاء من مجمل القرض في حال وفاة أحد الشريكين أي الزوجين في حالتناهذه.

لم أجارِ صديقي يأسه المفرط هذا بل حاولتُ أن أريه الجانب الآخر من المسألة. قلت له يا عزيزي أنت تعتقد خاطئاً ان هذه المشكلة هي مشكلتك انت تحديداً في الوقت الذي يجب أن تعرف انها هي مشكلة مئات الملايين من البشر حول العالم الذي سقطوا في وَهْم الفرص العادلة التي يمنحها “طوعاً” الاقتصاد الحر. طبعاً انت حر في أن تختار الطريقة التي تنظم بها حياتك او بالأحرى هم يوهمونك بأنك حر في اختيار الطريقة المثلى لاستغلالك، بينما في الواقع أنت لا تستطيع او بالاحرى لا تتمكن من الحصول على الحياة التي رسمتها لنفسك بل إن الظروف المحيطة بك هي التي تحدد لك المسار الذي عليك أن تجتازه فتجد نفسك سائراً بلا هوادة الى خياراتٍ لم تكن تخطر على البال. إنزعج زميلي من تحليلي هذا وإتهمني كعادته ب “التنظير” وبأنني بعيدٌ عن الواقع لا آبه بما يدورمن حولي وبأنني أبدو “قَدَريٌ” لا حول لي ولا قوة بل أسير كما كُتب لي “مطمش” متل الأعمى. أثارتني هذه التهمة المجحفة فرددتُ غاضباً: اذاً لماذا لا تحل مشكلة دينك على الطريقة التي إقترحها الرفيق فيدل كاسترو للدولِ الفقيرة والتي ترزح تحت أعباء ديون تشبه الحيوان الخرافي(العُدار) الذي له ايدٍ طويلةٍ لا يعرف المرء أين تبدأ ولا أين تنتهي ورؤوس متعددة تمسك برقبة ضحيتها ولا تتركه إلا ميتاً. فالرفيق كاسترو قدّم حلاً لمشكلة الديون الخارجية عند هذه الدول يقضي بأن تتوقف عن الدفع نهائياً وفوراً و”خليهم يبلطوا البحر.” أُعجب زميلي بهذه الفكرة الكاستروية لكننا اتفقنا انها قد تصلح لدولٍ وليس لأفراد حيث أنها في معظم الحالات تؤدي الى الهلاك الشخصي وتتأثر بها أفراد عائلة هذا الشخص او ذاك حكماً. فعدت مع صديقي الى المربع الأول من هذه المعضلة ورحنا نفتش عن الحل الانجح لها وإتفقنا على تحديد الأسئلة في الشكل التالي: ما هو الحل الأنسب لمسألة الديون الفردية التي تتراكم وتنتشر كالمرض السرطاني في الجسم؟ وكيف يمكن مواجهة عمليات السلب والاستلاب والاغتراب التي يعاني منها الشغيلة في مختلف أرجاء العالم؟

انتهى الحوارالشاق وحَمدتُ ربي أن ميولَ زميلي ليست انتحارية فهو لا يؤمن أنه سيلتقي بالحوريات يوماً ما وفي نفس الوقت يدرك أيضاً أن بوليصة التأمين تُصبح باطلة فوراً فى حالة قتل النفس. لكننا إتفقنا أن ننتظر بزوغ فجرٍ جديدة يعيد الأمل للكادحين بالتغيير على أن نساهم في هذه العملية بحسب إمكانياتنا وكلٍ من موقعه

*كنت عائداً مع زميلي الى بيته في احدى ليالي بيروت الحالكة الظلام بسبب إنقطاع الكهرباء. اوقفنا حاجز لاحدى المليشيات البيروتية ليسأل عن هويتي اذ أنهم كانوا لم يعتادوا بعد على رؤيتي في الحي. كان السائل من التابعية المصرية فطلب مني بصوت جهوري: “ظهرك للحيط ووجك ليَّ.” ففعلت فوراً وبدون أدنى تردد وما كاد يهمُ بتفتيشي حتى سارع صديقي بالقول: “زميلي في الكلية” فتركوني فوراً لأنهم كانوا يعرفون صديقي النازح الى بيتٍ في الحي نفسه. بعد عتقنا رحنا نضحك لأن الجملة الأمرية للمناضل المصري وردّ صديقي الفوري عليه بدتا كبيتِ شعرِ مكسور: “زميلي في الكلية—ظهرك للحيط ووجك لي”